From Melting Sun by Andrew Leatherbarrow

لعل سخرية القدر تكمن في كون المطالبات الأجنبية بحصةٍ من مصادر الطاقة اليابانية هي ما حفّزت ثورتها الصناعية. 

على مدار قرنين، بداية من القرن السابع عشر، تمتعت الجزر  بحالة من الاكتفاء الذاتيّ الاقتصادي وانعزال مسالم عن العالم الخارجي. طوال هذه المدة، تم تستطيح العلاقات مع الدول الأخرى، خاصّة غير الآسيوية، وسُمح لعدد محدودٍ منها فقط بالدخول والخروج من البلاد. بالطبع من بين تلك الدول الغربية، مُنحت بولندا إذن التجارة لنقل البضائع كالبهارات، والبورسلين، والحرير والكتب - إلى أوروبا. 

رست السفن الهولندية في جزيرة صناعية تُدعى "ديچيما" في مدينة ناجازاكي؛ كي لا يخطوا خطوة على الأراضي اليابانية إلا في حالات خاصة. وبالمثل، مُنع اليابانيين من دخول الجزيرة باستثناء بعض العمال المختارين. 


عرفت هذه الفترة المليئة بالعزلة باسم "ساكوكو" أي البلدة المُغلق، حتى انتهت بشكلٍ مفاجئ عام ١٨٥٣؛ بعد أن تسببت بركودٍ عسكريّ وتكنولوجي. وبينما كانت الجزر تحارب المحتلين والتجار القادمين على السفن الخشبية من طراز جاليون، استطاعت القوى الغربية صناعة السفن التي تعمل بالبخار والمعدن. 

اختصرت السفن الجديدة وقت السفر بين اليابان وكاليفورنيا من عامين إلى حوالي ثمانية عشر يومًا، ولكن على الرغم من أن الزوار الهولنديين يُغدقون على النخبة اليابانية بقصصهم المبتكرة عن البواخر والقطارات، لم يتجرأ أحد على النظر إليهم. 


في الرابع والعشرين من عام ١٨٥٢، غادر ضابط البحرية الأمريكي ماثيو بيري نورفولك في فيرجينيا قاصدًا شرق آسيا. فقد عهد له ميلارد فيلمور الرئيس الثالث عشر للولايات المتحدة بمهمة حاسمة تنص على إجبار اليابانيين على الإذعان لصفقة تُجارية وإن تطلب الأمر اللجوء إلى دبلوماسية مدافع الأسطول؛ أي ترهيبهم بقوتنا العسكرية. تشمل المعاهدة منافع جانبية أخرى كالاستحواذ على  محطات التزويد من قِبل الأسطول البحري الأمريكي، وتضمن إنقاذهم وتأمينهم لركّاب أي سفينة قد تتحطم قرب سواحلهم. 


ولد ماثيو كالبرايث بيري في العاشر من إبريل عام ١٧٩٤ في جنوب كينجستون التابعة لولاية رود آيلاند، لعائلة بحريّة تبعث على الفخر. قاد كلٌ من والده وشقيقه سُفنًا تابعة للبحرية، ولم يحِد عن خُطاهم وانضم إلى البحرية في عامه الخامس عشر. شارك في حرب ١٨١٢ ضد البريطانيين، وحرب البربر الثانية عام ١٨١٥ على سواحل شمال أفريقيا، والحرب المكسيكية الأمريكية والتي دارت في الفترة بين ١٨٤٦ و١٨٤٨، حائزًا على إثرهم احترام رؤسائه. بحلول الوقت الذي قرر فيه فيلمور إجبار اليابانيين الإنعزاليين على فتح حدودهم، كان بيري ذو التسع وخمسون عامًا قد وصل بالفعل إلى رتبة ضابطٍ، وهي أعلى الرتب في السلك البحريّ،  وحصل على خبرة دبلوماسية خالصة.


انطلقت بعثة مكونة من: أربعة سفن؛ ، وسفنٌ "يو إس إس سسكويهانا" و"يو إس إس ميسيسيبي" بأشرعة مطوية. وسفينة حرّاقة متوسطة الوزن، و"يو إس إس بليموث" و"يو إس إس ساراتوجا"- إلى اليابان في الثامن من يوليو عام ١٨٥٣ في صباحٍ خارٍ وضبابي، وتقدمت بمحاذاة الساحل  المغطى بغابات كثيفة نحو خليج "إيدو". سكَن مدينة "إيدو" - والتي تعني مصب النهر، دلالة على طبوغرافيتها-، حوالي مليون نسمة، ما جعلها أضخم المدن تعدادًا وقتها. 




علم قادة اليابان بوصول الأمريكيين المحتوم، بعد أن تلقوا تحذيرًا مسبقًا من هولندا قبل عام، ولكن ذلك لم يؤثر على حالة الرعب والخوف التي انتابت كل ما رأى سفنهم السوداء العظيمة. بدت الـ"سسكويهانا"، بارجة بيري الأنيقة ضخمة بجانب نُظيراتها اليابانية،  والتي كانت أقرب إلى سفن "الغليون" الأسبانية في القرن السادس عشر أكثر من كونها سفينة حربية حديثة.


كان قادة المدينة قد منعوا بناء أي سفينة تزن أكثر مائة طن وبأكثر من شراعٍ واحد، بينما أصغر سفن بيري تتخطى هذه الوزن بثمانية أضعاف. بطول سبعة وثمانين مترًا (٢٥٦ قدمًا) وعرضها أربعة عشر مترٍ تقريبًا (٤٥ قدمًا)، بأشرعة ترتفع عن سطح الماء بثلاثين مترًا (١٠٠ قدم)، كانت الـ"سسكويهانا" أعجوبة تكنولوجية تصل إلى ألفين وأربعمائة وخمسون طنًا ما يجعل حجمها ثلاثة أضعاف أكبر السفن اليابانية وأثقل منها بعشرين ضعفًا.

حاولت مجموعة من القوارب الصغيرة اعتراض الأسطول الأمريكي، ولكن انتهى بهم الأمر في المقاعدة الأولى يشاهدون تقدّم بيري على طول الساحل، غير مبالٍ حتى بالريح المعاكسة. بعد عدة أيام من المقاومة، حمل بيري مهمته الدبلوماسية إلى الشاطئ إلى المدينة الذي أصبحت تُعرف حاليًا باسم يوكوهوما، مصحوبًا بثلاثمائة ضابطٍ، وبحارين، وجنودِ البحرية. وتمكن اليابانيون بدورهم من حشد قوة مهيبة من خمسة آلاف محاربِ ساموراي أسطوري، ليستقبلوا الغرباء، متبوعة بتبادل للرسائل الرسمية لمناقشة الإجراءات الشكلية مع هولندا. 


غادر بيري اليابان بعد قضاء بضعة أيامٍ غير حافلة، ووعدهم بالعودة بعد عامٍ استجابة لأوامر الرئيس فيلمور، والذي كان قد تنحى عن منصبه. كانت خطابات كلٍ من فيلمور وبيري إلى القيادة اليابانية في الأساس تهديدات على الرغم من أسلوبها المهذب والمحترم: 

"افتحوا حدودكم وتاجروا معنا.. وإلا".



حتى أن بيري قد تمادى في بعض الأحيان بارفاق راية بيضاء مع خطاباته، تأكيدًا بأنه وإذا احتد القتال وأرادت اليابان الانسحاب: "عليكم رفع الراية البيضاء التي أهديناكم إياها، وعليها سنوقف تبادل النيران ونعقد السلام معكم". 


كانت اليابان تحت حكم توكوجاوا شوجوناتي دولةً إقطاعية دكتاتورية عسكرية بقيادة "شوغون" أي حكمٍ عسكري. حكمت عائلة الـ"شوغون" توكوجاوا حواليّ مائتي "دايميو"، (وهي تسمية تُطلق على السادة الإقطاعيين وهم الأقرب إلى الطبقة الأرستقراطية في وقتنا الحاليّ)، وأتباعهم من محاربي الساموراي. 


أخذ منصب الـ"شوغون" يتراجع وقت زيارة بيري. وكان الـ"شوغون" ليوشي تاكوجاوا البالغ من العمر ستون عامًا بالفعل يحتضر بداء القلب. وتوفيّ بعد أيام من مغادرته. عندها وقع المسؤولون في حيرة من أمرهم. تم اختيار ابنه غير المحبوب إيسادا توكوجاوا لمنصب الـ"شوغون"، ولكن للقرار الأخير كان راجعًا إلى مجلس الشيوخ، بقيادة "ماشاهيرو آبي" البالغ من العمر ثلاثة وثلاثون عامًا. كان آبي الابن الخامس لـ"دايميو" ما يُعرف الآن بمقاطعة هيروشيما، والذي أصبح "دايميو" مقاطعته الأم في عام ١٨٣٦ في عامه السابع عشر. كان آبي هو من قرر، قبول خطابات بيري بالنيابة عن إيوشي من خلف الستار، لكسب بعض الوقت.




كتب المؤرخ البروفيسور د. ي. مياوتشي في عام ١٩٧٩: 

"كانت هذه أولى أزمات اليابان من خارج البلاد منذ غزو المغول في أواخر القرن الثالث عشر. أزمة هدفها زعزعة سلطة "توكوجاوا" في اليابان، وبشكلٍ حاسم". 


باتت اليابان هائمة بلا قائد، وخاضعة، ومُهددة بالإبادة. حينها  أُجبر آبي على اللجوء إلى طلب المساعدة ولكن ليس من "دايميو" المقاطعة وأتباعه الاثنين وعشرون فحسب، ولكن أيضًا من الامبراطور الصوري كومي ذو الاثنين وعشرين عامًا ومستشاريه. وعليها، حصل إمبراطورٌ للمرة الأولى منذ قرونٍ على موطئ قدمٍ في عملية اتخاذ القرارات الوطنية المصيرية. 


هل يتوجب عليهم إتاحة حدودهم للغرب أم الدفاع عن تقاليد مجتمعهم الانعزالي وقتال المعتدين؟ أقرّ بعض البراغماتيين المتفتحين، أن اليابان قد ازدهرت في عصر ما قبل الـ"ساكوكو"، وظنوا أن إعادة العلاقات التجارية الأجنبية سيدرّ عليهم بثروة وعلمٍ منقطعيّ النظير. آخرون رفضوا تلك التأكيدات، مؤمنين بأن اكتفاءهم الذاتي، سيحميهم على الرغم من اعتقاد البعض بإنهم قد ينتصرون في تلك الحرب. 


علم الجميع أن جارتهم المهيبة الصين قد أخفقت في "حرب الأفيون الأولى" والتي استمرت من ١٨٣٩ إلى ١٨٤٢. وأصروا على تجنب المصير المألوف لمثل تلك المعاهدات التجارية الاستغلالية، والتي وضعت حدًّا للسلالة الحاكمة التي استمرت لأكثر من ألفيّ عام. قليلون مثل الدايميو ناوسوكي لي لجأوا إلى خطة أكثر دهاءً: فتح حدود ناجازاكي للتجارة، ثم اكتساب المعرفة والقدرات والتكنولوجيا اللازمة لبناء أسطولهم البحريّ الخاص، ثم استعادتها مرّة أخرى. 


وقال مُجادلًا: 

"عندما يُحاصر المرء داخل قصرٍ، فإن رفع الجسر المتحرك يعني أن تسجن نفسك، ويمحو ذلك كل فرصك للمقاومة". 


رفض الإمبراطور كومي الموافقة على أي معاهدة وآثر الانعزال. بالتأكيد سعى البعض يائسين للحصول على أقل النتائج؛ راضين عن الوضع الراهن، والاذعان الفوري لمطالب بيري قد تعني هجومًا على منصب الشوغون. 

وجرت الأمور كالتالي: قطعت عودة السفن الأمريكية صباح الثاني عشر من فبراير عام ١٨٥٤ غير المتوقعة إلى خليج إيدو مناقشاتهم.



وصلت القوات الأمريكية إلى الساحل متأخرة صباح الثامن من مارس، بعد قُرابة شهرٍ من المراوغة بين الطرفين. أدخل الضبّاط كل فريقٍ إلى قاعة استقبالٍ خاصة للمناسبة، على أصوات المدافع تحيّة من الطرفين. وخلف القاعة، في غرفة مريحة محجوزة لعدّة رجالٍ، جرت المناقشات.  

وفقًا للسجلات الأمريكية الرسمية، فقد أذعن اليابانيون منذ البداية لـ"اقتراحات الحكومة الأمريكية بخصوص الفحم، والخشب، والمياه، والمؤن، وإنقاذ سفنهم المنكوبة".  وتلك كانت أهداف الرئيس "فيلمور" المبدئية. وفي المقابل عبّر الأمريكيون عن شكرهم ورغبتهم في معاهدة شبيهة للمعاهدة الصينية. وجرت مناقشات طفيفة خلال الأسبوع التالي مشتملة على: شراء المؤن من اليابانيين، وتغيير قيمة العملة لتصبح قيمتها مساوية لوزن القطعة النقدية، وتقديم الهدايا للمسؤولين اليابانيين والشوغون إيسادا توكوجاوا. 

اختار بيري بنفسه مجموعة معبّرة من الهدايا، لإيضاح التفوّق التكنولوجي والحضارة الأمريكية المتقدمة. احتوت على نموذج طبق الأصل بربع الحجم للقطار البخاري الأمريكي الكلاسيكي ٤-٤-٠ بعربات الركّاب والقضبان. 

على غرار باخرات بيري، تعد القطارات البخارية ضيفًا جديدًا على السواحل اليابانية، حتى أن البعض قد حاولوا إخفاء فضولهم. شاهد المتفرجون بينما بعض المتطوعين المبهجين يجربون القطار، ومنهم جالسين على سطح عربة الركاب والنسيم يحرّك أثوابهم. 

في ظل المناقشات الشاقّة، ورفض بيري الإذعان لأي من مطالبهم، رضخ اليابانيون ووافقوا على منح السفن الأمريكية حق الرسو على سواحلهم في ثلاثة موانئ مختلفة في أنحاء البلاد، على الفور. عندها انهارت مقاومتهم، وواقف الأطراف على جميع البنود. في يوم الجمعة الموافق الواحد والثلاثون من مارس عام ١٨٥٤، وقّع الطرفان معاهدة "كاناجاوا" معلنة بداية الثورة الصناعية باليابان.







Comments

Popular posts from this blog

Class of 2013 by Mistki

Heaven by Mieko Kawakami "Excerpts".

Quotes that I liked and translated.